الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روائع البيان في تفسير آيات الأحكام
.ما ترشد إليه الآيات الكريمة: ثانياً: الإنسان يُبتلى في هذه الحياة على قدر إيمانه، ولهذا كان الأنبياء أعظم الناس ابتلاءً. ثالثاً: التضرع إلى الله والشكوى إليه سبحانه لا ينافي مقام الصبر الممدوح. رابعاً: كما يبتلي الله سبحانه بالفقر يبتلي بالغنى، والمؤمن من يشكر الله في السراء والضراء. خامساً: إذا اتقى الإنسان ربه جعل الله له من أمره فرجاً ومخرجاً، كما صنع بأيوب عليه السلام. سادساً: زوجة أيوب جازاها الله بحسن صبرها، فأفتاه في ضربها بمائة عود جملة واحدة. سابعاً: اتخاذ الحيلة جائز إذا لم يكن فيها إبطال حق أو هدم أمرٍ من أمور الشرع الحنيف. ثامناً: على الإنسان أن يبرّ في يمينه أو يكفر عنها إذا كان ثمة مصلحة وكان الحنث أفضل من البر. .حكمة التشريع: يقول شهيد الإسلام سيد قطب في كتابه الظلال ما نصه: وقصة ابتلاء أيوب وصبره ذائعة مشهورة، وهي تضرب مثلاً للابتلاء والصبر ولكنها مشوبة بإسرائيليات تطغى عليها، والحد المأمون في هذه القصَّة هو أن أيوب عليه السلام كان كما جاء في القرآن عبداً صالحاً أوّاباً، وقد ابتلاه الله فصبر صبراً جميلاً، ويبدو أن ابتلاءه كان بذهاب المال والأهل والصحة جميعاً ولكنه ظل على صلته بربه، وثقته به، ورضاه بما قسم له. وكان الشيطان يوسوس لخلصائه القلائل الذين بقوا على وفائهم له، ومنهم زوجته بأنَّ اللَّهَ لو كان يحب أيوب ما ابتلاه، وكانوا يحدِّثونه بهذا فيؤذيه في نفسه أشد ما يؤذيه الضر والبلاء. فلما حدثته امرأته ببعض هذه الوسوسة حلف لئن شفاه الله ليضربها عدداً عيَّنه، قيل مائة. وعندئذ توجه إلى ربه بالشكوى مما يلقى من إيذاء الشيطان، ومداخله إلى نفوس خلصائه، ووقع هذا الإيذاء في نفسه: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}. فلما عرف ربُّه منه صدقه وصبره، ونفوره من محاولات الشيطان وتأذيه بها، أدركه برحمته، وأنهى ابتلاءه، ورد عليه عافيته إذ أمره أن يضرب الأرض بقدمه فتتفجر عين باردة يغتسل منها ويشرب فيشفى ويبرأ {اركض بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}. ويقول القرآن الكريم: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وذكرى لأُوْلِي الألباب}. وتقول بعض الروايات: إن الله أحيا له أبناءه، ووهب له مثلهم، وليس في النص ما يحتِّم أنه أحيا له من مات، وقد يكون معناه أنه بعودته إلى الصحة والعافية قد استرد أهله الذين كانوا بالنسبة إليه كالمفقودين، وأنه رزقه بغيرهم زيادة في الإنعام والرحمة والرعاية مما يصلح ذكرى لذوي العقول والإدارك. والمهم في معرض القصص هنا هو تصوير رحمة الله وفضله على عباده الذين يبتليهم فيصبرون على بلائه، وترضى نفوسهم بقضائه. فأما قسمه ليضربن زوجه، فرحمة من الله، وبزوجه التي قامت على رعايته، وصبرت على بلائه وبلائها به، أمره الله أن يأخذ مجموعة من العيدان بالعدد الذي حدده فيضربها به ضربة واحدة تجزئ عن يمينه فلا يحنث فيها: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} هذا التيسير وذلك الإنعام، كانا جزاء على ما علمه الله من عبده أيوب من الصبر على البلاء وحسن الطاعة والالتجاء {إِنَّا وجدناه صَابِراً نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ}. .سورة محمد: .تفسير الآيات (4- 6): سورة محمد: [1] الحرب في الإسلام: .التحليل اللفظي: {الوثاق}: الوَثاق: في الأصل مصدر كالخلاص، وأريد به هنا ما يوثق به أي ما يربط كالحبل وغيره. قال في اللسان: والوَثاق اسم الإيثاق، تقول: أوثقته إيثاقاً ووَثاقاً، والحبل أو الشيء الذي يوثق به (وِثاق) والجمع الوُثُق بمنزلة الرّباط والرّبُط. وقال الجوهري: وأوثقه في الوَثَاق: أي شدّه، ومنه قوله تعالى: {فَشُدُّواْ الوثاق} والوِثاق بكسر الواو لغة فيه. اهـ. والمراد في الآية الكريمة: أسر الأعداء لئلا يفلتوا. {مَنًّا}: مصدر منّ ومعناه: أن يطلق سَراح الأسير بدون فداء، وبدون مقابل. قال الشاعر: {فِدَآءً}: مصدر فادى: والفداء أن يطلق الأسير مقابل مالٍ يأخذه منه. قال في اللسان: الفِداء بالكسر: فكاك الأسير، والعرب تقول: فاديت الأسير وتقول: فديته بمالي، وفديته بأبي وأمي، إذا لم يكن أسيراً، وإذا كان أسيراً مملوكاً قلتَ: فاديته، قال الشاعر: {أَوْزَارَهَا}: الأوزار جمع وِزْر، وهو في الأصل: الإثم والذنب، ويطلق على الحمل الثقيل، والمراد به آلات الحرب وأثقالها من السلاح، والخيل، والعتاد، وسمي السلاح (أوزاراً) لأنه يُحمل لثقله، قال الأعشى: وإنما جاء الضمير مؤنثاً (أوزارها) لأن الحرب مؤنثة. ومعنى الآية: حتى تنتهي الحرب، وتضع سلاحها، فلا يكون قتال مع المشركين لضعف شوكتهم. {ذلك}: اسم الإشارة (ذلك) جيء به للفصل بين كلامين، وقد كثر في لغة العرب استعمال اسم الإشارة عند الفصل بين كلامين والانتقال من الكلام الأول للثاني، كأنه قيل: ذلك ما كنا نريد أن نقول في هذا الشأن، ونقول بعده كذا.. وكذا. {لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ}: أي انتصر منهم بدون أن يكلِّفكم بحرب أو قتال، فالله سبحانه قادر على إهلاك الكفار بدون حرب المسلمين لهم، ولكنه ابتلاء من الله سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31]. قال الألوسي: قوله تعالى: {وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ} أي لانتقم منهم ببعض أسباب الهلاك من خسفٍ، أو رجفةٍ، أو غرقٍ، أو موتٍ جارف. {لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ}: أي أمركم سبحانه بالحرب {لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} فيثيب المؤمن ويُكرمه بالشهادة، ويُخزي الكافر بالقتل والعذاب، والابتلاء في اللغة: الامتحان والاختبار. {يُضِلَّ أعمالهم}: أي فلن يضيع أعمالهم بل ستحفظ وتخلّد لهم، ويُجزون عليها الجزاء الأوفى يوم الدين. {عَرَّفَهَا لَهُمْ}: أي بيّنها لهم وأعلمهم منازلهم فيها فلا يخطئونها، أو عرّفها لهم في الدنيا بذكر أوصافها كما قال تعالى: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ...} [محمد: 15] الآية. .المعنى الإجمالي: ثم بيّن الله سبحانه الحكمة من مشروعية القتال مع قدرته تعالى أن ينتصر من أعدائه من غير أن تكون حرب بين المؤمنين والكافرين، وتلك الحكمة هي امتحان الناس، واختبار صبرهم على المكاره، واحتمالهم للشدائد في سبيل الله {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين} [آل عمران: 142]. ثم بيّن الله تعالى بعد ذلك أنّ الذين أكرمهم الله بالشهادة في سبيله، ستحفظ أعمالهم. وتخلّد لهم، ثم هم بعد ذلك في روضات الجنات يُحبرون وفي ذلك حضّ على الجهاد، وترغيب للخروج في سبيل الله لينال المؤمن إحدى الحسنَيْين: إما النصر والعزة في الدنيا، وإمّا الشهادة في سبيل الله. .وجوه القراءات: قال الألوسي: ومجيء (فِعال) اسم آلة كالحِزام والركاب نادر على خلاف القياس، وظاهر كلام بعضهم أنّ كلاً من المفتوح والمكسور اسم بما يوثق به. ثانياً: قوله تعالى: {وَإِمَّا فِدَآءً} قرأ الجمهور بالمدّ، وقرأ ابن كثير: {وإمّا فَدَى} بالفتح والقصر كعصا. قال أبو حاتم: لا يجوز قصره لأنه مصدر فاديته. قال الشهاب: ولا عبرة به فقد حكى الفراء فيه أربع لغات الفتح والكسر، مع المد والقصر. ثالثاً: قوله تعالى: {والذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله} قرأ الأعمش وحفص عن عاصم: {قُتلوا} بتخفيف التاء مبنياً للمجهول، وقرأ الجمهور: {قاتلوا} بألف مبيناً للمعلوم. رابعاً: قوله تعالى: {فَلَن يُضِلَّ أعمالهم} قرأ عليّ كرم الله وجهه: {يُضَل} مبنياً للمفعول، و{أعمالُهم} بالرفع نائب فاعل، وقرئ: {يَضلّ} بفتح الياء من ضلّ وأعمالُهم فاعل. وقراءة الجمهور: {يُضِلَّ أعمالَهم} أي لن يُضلّ الله أعمالهم بمعنى لن يضيِّعها. خامساً: قوله تعالى: {عَرَّفَهَا لَهُمْ} قرأ الجمهور بتشديد الراء، وقرأ أبو رجاء وابن محيصن: {عَرَفها لهم} بتخفيف الراء. .وجوه الإعراب: ثانياً: قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً} مناً وفداء منصوبان على المصدر إمّا أن تمنوا عليهم مناً، أو تفادوهم فداءً، فهو كسابقه مفعول مطلق لفعل محذوف. وحذف الفعل الناصب للمصدر واجب كذلك ومنه قول الشاعر: وجوّز أبو البقاء كون كل من (منّاً) و(فداءً) مفعولاً به لمحذوف تقديره: تولوهم مناً، أو تقبلوا منهم فداءً، ولكنّ أبا حيان ردّ هذا بأنه ليس إعرابَ نحويّ. ثالثاً: قوله تعالى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ} ذلك، في موضع رفع لأنه خبر لمبتدأ محذوف وتقديره: الأمر ذلك أو الحكم ذلك. رابعاً: قوله تعالى: {وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ} جملة: {عَرَّفَهَا لَهُمْ} في موضع نصب على الحال، والتقدير ويدخلهم الجنة معرّفة لهم. .لطائف التفسير: والتعبير أيضاً: يوحي بشجاعة المؤمنين وأنهم من الكفار كأنهم متمكنون من رقابهم، يعملون فيهم سيوفهم بضرب الأعناق، وهو (مجاز مرسل) علاقته السببيّة لأن ضرب الرقبة سبب الموت. اللطيفة الثانية: قوله تعالى: {فَشُدُّواْ الوثاق} كناية عن الأسر أي اجعلوهم أسرى واحفظوهم رهائن تحت أيديكم، حتى تروا فيهم رأيكم، ولما كانت العادة أن يربط الأسير لئلا يهرب جاء التعبير بقوله: {فَشُدُّواْ الوثاق} وفيه الإشارة إلى الكفّ عن القتل والاكتفاء بالأسر، لأنّ الشريعة الغراء تنهى عن الإجهاز على الجريح، وذلك من آداب الإسلام وتعاليمه الإنسانية الرشيدة. اللطيفة الثالثة: تقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً} ذكر تعالى (المن والفداء) ولم يذكر القتل والاسترقاق، وفي ذلك إرشاد من الله تعالى إلى أن الغرض من الحرب كسر (شوكة المشركين)، لا إراقة الدماء والتشفي بإزهاق الأرواح، فإذا ضعفت شوكة المشركين ووهَنت قواهم فلا حاجة إلى القتل. وتقديم (المن) على (الفداء) في الآية الكريمة للإشارة إلى ترجيح حرمة النفس على طلب المال، فالمجاهد في سبيل الله يقاتل لإعلاء كلمة الله، لا للمغنم المادي والكسب الدنيوي. اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا} في الآية الكريمة إشارة إلى أن الإسلام يكره الحرب ويمقتها، لأنها مخرّبة مدمّرة، والتعبير ب {أَوْزَارَهَا} للإشارة إلى أنّ ما فيها من آثام إنما ترجع على الذين أشعلوها وهم الكفار، المحاربون لله ورسوله، فلولا كفرُهم وإفسادُهم في الأرض لما كانت هناك حرب. قال الإمام الفخر: والمقصود من وضع الحرب أوزارها، انقارض الحرب بالكلية بحيث لا يبقى في الدنيا حزب من أحزاب الكفر، يحارب حزباً من أحزاب الإسلام، وإنما قال: {حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا} ولم يقل: حتى لا يبقى حرب، لأن التفاوت بين العبارتين كالتفاوت بين قولك: انقرضت دولة بني أمية، وقولك لم يبق من دولتهم أثر، ولا شك أن الثاني أبلغ، فكذا هاهنا. اللطيفة الخامسة: فإن قيل: لماذا لم يهلك الله الكافرين مع قدرته عليهم وأمرَ المؤمنين بالجهاد؟ فالجواب: أن الله عز وجلّ أراد بذلك أن يختبرعباده، فابتلى المؤمنين بالكافرين، ليختبر صبرهم على المكاره، واحتمالهم للشدائد، وابتلى الكافرين بالمؤمنين، ليطهّر الأرض من رجسهم، وينيل المؤمنين الشهادة في سبيله بسببهم، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة: {ولكن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ}. فإن قيل: إن الله يعلم المؤمن من الكافر، والبّرّ من الفاجر، والمطيع من العاصي، فما هي فائدة هذا الابتلاء؟ فالجواب أن الابتلاء من الله تعالى ليس بقصد العلم والمعرفة، وإنما هو بقصد إثابة المؤمن، وتعذيب الكافر، بعد إقامة الحجة عليه، حتى يقطع العذر على الإنسان، أو نقول: إن الابتلاء غرضه الكشف للناس، أو للملائكة، ليظهر لهم الصادق من المنافق، والتقي من الشقي، وليس بالنسبة له تعالى، لأنه بكل شيء عليم. اللطيفة السادسة: أمر الله تعالى بالمنّ أو الفداء، وهذا من مكارم الأخلاق التي أرشد إليها الإسلام، روي أن الحجّاج حين أسر أصحاب (عبد الرحمن بن الأشعث) وكانوا قريباً من خمسة آلاف رجل، قتل منهم ثلاثة آلاف فجاءه رجل من (كِنْدة) فقال يا حجّاج: لا جزاك الله عن السُنَّة والكرم خيراً! قال: لأن الله تعالى يقول: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرقاب حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً} في حق الذين كفروا... فوالله ما مننتَ، ولا فديت؟ وقد قال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق: فقال الحجاج: أفٍّ لهذه الجيف!! أما كان فيهم من يحسن مثل هذا الكلام!؟ خلّوا سبيل من بقي، فخُلّي يومئذٍ عن بقية الأسرى وهم زهاء ألفين، بقول ذلك الرجل.
|